الماء الأسود ليوسف السباعي


يعتبر يوسف السباعي افضل من كتب القصة القصيرة في مصر و العالم العربي و حتي في مجال الرواية فله ابداعته و يكفيه رواية "نحن لا نزرع الشوك" التي تعتبر واحدة من افضل الروايات العربية! و لكن اكثر ما يعجبني في أدب يوسف السباعي هو انه بالاضافة القدرة علي الغوص في اعماق الشخصيات التي يقدمها لنا، فأنه عنده القدرة علي الخروج من المحلية الي العالمية و وضع احداث قصته في أماكن و ازمنة و ثقافات مختلفة و دائماً تعرض قصصه و رواياته لقضايا كبيرة و مهمة منها قضية احتيال الرجل الأبيض المستعمر علي السكان الأصليين لامريكا و منها هذه القصة .......... أضغط هنا لقراءة المزيد عن يوسف السباعي

الماء الأسود

وذهب المجلس المحترم، وأخذ في استجواب الرجل، ولكنه لم يجب بحرف واحد، بل صاح بابنته، فتقدمت حاملة بين يديها منضدة صغيرة ، حاملة أكواب الماء الأسود
ـ إنه، يا سيدي، شئ مخيف ومروع حقاً
ـ هدئ من روعك يا بني، واسترح قليلاً، ثم خبرنا بجلية الأمر
ولكن الرجل لم يسترح ولم يهدأ .. بل اندفع يتحدث في سرعة دافقة، وقد ارتجف جسمه، واحمرت عيناه، كأن به مساً من شيطان رجيم .. قال إنه رأى أشباحاً ضخمة مخيفة .. تتحرك ببطء، وقد تقدمتها حيوانات بشعة لم ير مثلها من قبل .. وكانت القافلة الرهيبة تزحف دون أن يظهر بينها آدمي واحد .. حتى خيل إليه أن أصحابها من الجن والأبالسة

وسرى النبأ في القرية سريان النار في الهشيم .. وعلم أهلوها أن عدواً غامضاً مخيفاً بات يهدد سلامتهم، وأنه يوشك أن ينقض عليهم فيوسعهم نهباً وسلباً، ويذيقهم عذاباً أليما! وسرعان ما احتشد رجال القرية بأقواسهم ونبالهم، ومضت جحافلهم تريد العدو .. لمنازلته وسحقه!
كان ذلك في أوائل القرن التاسع عشر، في إحدى قرى ولاية أوريجون بأمريكا الشمالية، وكانت قرية بعيدة يسكنها الهنود الحمر، لم يستطع المستعمرون البيض أن يصلوا إليها في ذلك الحين. وفي ذات يوم شاهد أهل القرية رجلاً غريباً يقبل عليهم، وقد ساق أمامه جواداً عجوزاً أعجف، حمّله ما استطاع من بضائع أوروبية أثارت عجب القوم ودهشتهم .. وتهافت القوم على بضاعة الرجل، وبدأت المقايضة .. فأخذوا كل ما معه من (بطاطين) زاهية، وحلى مذهبة، وأدوات للطبخ والأكل براقة لامعة، واستولى هو على كل ما لديهم من فراء ثمين، ثمناً لبضاعته الزهيدة التافهة .. ومع ذلك كان اغتباط القوم بما أعطاه الرجل لهم لا يكاد يقدر .. بل أظهروا له عظيم أسفهم عندما اعتزم الرحيل، ورجوا منه رجاء حاراً ألا يطيل غيبته، وأن يحضر لهم في المرة القادمة كل ما يستطيع حمله من سوق الرجال البيض

وولت الأيام، والقوم في انتظار الرجل الأبيض الذي طالت غيبته، حتى يئسوا من عودته، وانمحت ذكراه من رؤوسهم .. وفي يوم من الأيام أقبل رجل منهم يعول ويصيح وقد تملكه الفزع .. وأخبرهم أنه رأى خارج القرية عدواً مخيفاً جباراً يزحف عليهم كأنه القدر المحتوم. وهرع القوم إلى أسلحتهم، وهبوا يذودون عن حياضهم .. وسارت جماهيرهم ثائرةً صاخبةً تهدد الغازي بالويل والثبور .. وظهرت في الأفق طلائع العدو، فذهل القوم لرؤيتها وتسمروا في أماكنهم كالحجارة! .. لقد صدق النذير، ولم يكن مبالغاً فيما وصف!! هذه الأشباح الهائلة المخيفة التي تتقدمها حيوانات ضخمة مروعة! ترى ما كنهاا؟ وماذا تبتغي؟ .. ولم يبد على العدو الزاحف أي إشارة تدل على العدوان .. فزاد ذلك من دهشة القوم، وأطلقوا عليه بضعة أسهم في الهواء استفزازاً له، ولكنه استمر في مشيته الهادئة، ومظهره المسالم، وأخذ يقترب منهم شيئاً فشيئاً، حتى أصبح منهم على قيد خطوات ... وفجأةً انقلب فزع القوم ودهشتهم إلى موجة فرح وسرور سرت بينهم، وإذا بهم يقهقهون ويرقصون حول ما ظنوه في بادئ الأمر عدواً يهدد سلامتهم .. فقد وجدوا عدوهم المخيف، هو التاجر الأبيض الذي ينتظرونه بفارغ الصبر .. ولم تكن الأشياء الضخمة الرهيبة التي تتقدمها الحيوانات المخيفة سوى عربات كبيرة تجرها الثيران، وقد حملها التاجر بالبضائع المختلفة! وسار أهل القرية يتقدمون موكب التاجر، ودخلوا القرية كالغزاة الفاتحين .. وانتقى التاجر قطعة أرض واسعة في وسط القرية فحط بها رحاله، وأخذ يبتني له كوخاً خشبياً واسعاً جعله قسمين: أحدهما لسكناه هو وفتاته الحسناء الذهبية الشعر، والآخر نظم فيه بضاعته تنظيماً بديعاً، استهوى أفئدة الهنود، وملأهم سروراً وعجباً

ولم تكد تمضي أسابيع قلائل حتى كان الرجل قد استنفذ معظم ما يملكه أهل القرية من نفائس وفراء نظير جزء ضئيل من بضائعه. ووجد نفسه قد أصاب في غمضة عين ثراء طائلاً لم يكن يحلم به .. وذهب عمدة القرية لزيارة حانوت الرجل ومشاهدة ما به من تحف، فاستقبله بالحفاوة والترحاب، وأكرم وفادته، وعرض عليه كل ما عنده من بضائع نفيسة. وعندما هم العمدة بمغادرة الحانوت، قاده الرجل إلى غرفة صغيرة مظلمة في مؤخرة الكوخ، وأسر في ذهنه هامساً: "سأذيقك نوعاً من الشراب إذا أقسمت ألا تبوح بسره لأحد" وبعد أن أقسم العمدة يميناً غلظة، ناوله الرجل كوباً مليئة بشراب سماه (الماء الأسود) .. وكان الشراب نوعاً من الخمر المعتقة، أغلب الظن أنه (الروم). وكانت الخمر في ذلك الوقت حرم بيعها للهنود الحمر، لما لها من تأثير بالغ فيهم، ولكن التاجر كان قد تملكه الجشع، وأغراه ما حصل عليه من ثروة طائلة، فطمع في المزيد، ورسم لنفسه خطة يتحايل بها على بيع الخمور للقوم بأبهظ الأثمان فتتضاعف بذلك ثروته، ويستنزف منهم كل ما يملكون. وفعلت الخمر فعلها برأس الرجل الوقور فأصابته نشوة .. واستخفه طرب .. وذهل الناس عندما رأوا عمدتهم المهيب يعود إلى داره مترنح الأعطاف، يوزع النكات ذات اليمين وذات اليسار، ويرفع عقيرته بالغناء، غير متورع عن الرقص وسط الطرقات!!

وفي اليوم التالي حينما أفاق الرجل، ولم يجرؤ أحد على مصارحته بهزله الشائن، وعبثه الماجن .. ولم يجد الرجل ما يمنعه من كوب آخر من الماء الأسود على سبيل (الفرفشة) فولى وجهه شطر حانوت التاجر .. و تكررت المهزلة يوماً بعد يوم .. ووجد أهل القرية أنّ الأمر أصبح جد خطير، فانعقد مجلس القرية للتشاور فيما أصاب زعيمهم .. وقرروا آخر الأمر أن التاجر الأبيض قد سلط عليه روحاً شريرة أصابته بخبل، وجعلت منه سخرية وأضحوكة .. واتفقوا على إيفاد رسول منهم إلى التاجر لنهيه عن فعلته الشائنة، وأمره بطرد الروح الشريرة من جسم الزعيم. وذهب الرسول فأنذر الرجل، وأنصت هذا لحديثه حتى النهاية، دون أن ينبس ببنت شفة .. فلما انتهى قاده من يده إلى الحجرة النائية، وفعل به مثل ما فعل بالزعيم في أول الأمر. وخرج الرسول نشوان مترنحاً .. هازلاً ماجناً .. يغني ويرقص .. تماماً كما فعل زعيمه من قبل!! وذهل أعضاء مجلس القرية حينما رأوا ما حل برسولهم، وما زالوا يستجوبونه حتى باح بالسر .. وهو مخمور لا يدري ما يقول!! ودهش القوم، ولم يصدقوا الرجل، واستقر رأيهم على أن يذهبوا جميعاً ليتبينوا الحق من الباطل .. وكان هذا هو كل ما يرغبه التاجر الأبيض!! ذهب المجلس المحترم، وأخذ في استجواب الرجل، ولكنه لم يجب بحرف واحد، بل صاح بابنته، فتقدمت حاملة بين يديها منضدة صغيرة صفت عليها أكواب الماء الأسود! وتردد القوم برهة، ثم مدوا أيديهم يجرعون ما بالأكواب .. وبعد هنيهة أصبح مجلس القرية .. مجلس (أنس) ..وتهافت على التاجر أهل القرية يطلبون الماء الأسود فلم يبخل عليهم به .. ورفض أن يأخذ منهم أي مقابل! وحدث بعد ذلك ما ينتظر كل امرئ منهم حدوثه .. فقد استساغ أهل القرية الخمر، وأقبلوا عليها، فرفع الرجل ثمنها شيئاً فشيئاً، حتى بلغ السعر الذي يبيع به الكأس الواحدة حد الجنون

وأخيراً نفذ الخمر. وهنا كانت الكارثة: ظن الناس أن التاجر قد أخفاه ليبيعه بسعر أعلى، فتكاثروا عليه وطلبوا إليه أن يعطيهم خمراً، ولم يجد التاجر نفعاً أن يقسم أيماناً مغلطة بأن الخمر قد نفدت وأنه يعدهم بأن يذهب إلى سوق الرجال البيض، فيحضر لهم ما يشاؤون من ذلك الماء الأسود. ورفض القوم الظامئون أن يصدقوا الرجل أو يطلقوا سراحه .. وأخذوا في تعذيبه أمام ابنته، والرجل يئن ويتلوى ألماً. حتى إذا يئسوا منه؛ أغلقوا عليه وابنته الكوخ .. ثم أشعلوا النار! وانصرف القوم، تاركين الكوخ يحترق بما فيه


لمشاركة المقالة علي صفحتك في الفيسبوك، اضغط علي كلمة شير



التعليقات


مواضيع ذات صلة

Image placeholder

"يعقوب و بنيه" النظرة اليهودية الي قصة سيدنا يوسف

ودعا يعقوب بنيه وقال: «اجتمعوا لانبئكم بما يصيبكم في اخر الايام. اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب، واصغوا الى اسرائيل ابيكم: راوبين، انت بكري، قوتي واول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز. فائرا كالماء لا تتفضل، لانك صعدت على مضجع ابيك....اقرأ المزيد


E-currency exchange listing

Image placeholder

تعرف علي قصة اسلام الباحث عن الحقيقة سلمان الفارسي

فقال أمير المؤمنين لسلمان يا با عبد الله أ لا تخبرنا بمبدإ أمرك ؟؟ فقال سلمان و الله يا أمير المؤمنين لو أن غيرك سألني ما أخبرته أنا كنت رجلا من أهل شيراز من أبناء الدهاقين و كنت عزيزا على والدي فبينا أنا سائر مع أبي ...اقرأ المزيد