حضرة المحترم - نجيب محفوظ


"مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم"......لم اقرأ في حياتي كلها جملة أعمق و لا أجمل من هذه الجملة....فهذه الجملة جمعت الفلسفة و الدين و الأدب و البلاغة و كل شئ...أنها الجملة التي تشرح حالتي في كلمات قصيرة و هي جملة في رواية لاستاذ نجيب محفوظ رحمه الله كنت في صغري اعتبرها تافهة و اما الآن فأعتبرها الأقرب الي قلبي. أنها رواية "حضرة المحترم" و التي لو لم يكتب نجيب محفوظ غيرها لاستحق ما هو أفضل من نوبل بمليون مرة. .......... أضغط هنا لقراءة المزيد عن نجيب محفوظ

حضرة المحترم

قرأت رواية حضرة المحترم لأول مرة و أنا في ثالثة او رابعة ابتدائي يعني في سنة ١٩٨٧ او ٨٨ تقريباً و لاني كنت قبلها قد قرأت الثلاثية و روايات اُخري فبصراحة استهيفتها و أندهشت أنها مكتوبة في ١٩٧٥ يعني حقتها تكون أعظم من كده لان نجيب محفوظ ايامها كان عدي مرحلة النضوج الأدبي و الشخصي، و كنت علي خطأ! الرواية تحكي عن قصة كفاح شخص اسمه " عثمان بيومي " كان الابن الوحيد لاب و ام فقراء جداً ضحوا بكل شئ من اجل أن يتعلم و يصبح افندياً في عصر كان يمشي فيه اباءه و اجداده حفاة القدم مثل اغلب المصريين و بلغ من تضحية ابيه و الذي كان يعمل علي عربة كارو انه قد قام ببيع حماره و اصبح يجر العربة بدلاً عن الحمار حتي يدفع بثمن الحمار مصاريف مدرسة ابنه. بعد سنوات تخرج عثمان من الأبتدائية و ذهب ليزف لابيه الخبر فوجده قد مات في غرفتهم الفقيرة رقيقة الحال، فصرف نظر عن الالتحاق بالثانوية و التحق بوظيفة في وزارة الأشغال كموظفاً صغيراً في قسم المحفوظات او الأرشيف ، وفيما بعد نال شهادة البكالوريا معتمداً على نفسه بعد ان لحقت امه بإبيه و اصبح يتيماً، و في الحقيقة انه و في يوم تعينه ذهب مع الموطفيين الجدد ليقابلوا السيد مدير عام الأدارة و هناك أنبهر عثمان بكل شئ بدأية من المكتب و فخامته الي السيد المدير ووقاره و أعتقد انه لابد ان تكون السعادة تسكن في هذا المكتب فأحتل حب هذا المنصب و تلك الغرفة قلب عثمان فأصبح لا يري شئ سوي هذا المنصب و تلك الغرفة في قمة وزارة الأشغال، و كان له صديق وحيد من الطفولة درس معه في الكُتاب ثم سلك الطريق الذي يناسبه فاصبح مُقرأئاً في احد المساجد -تقريباً صديقه هذا رمز للضمير او الدين في حياته- و كان عثمان يجلس اليه من حين لاخر و بعد ان رأي مكتب المدير قال له أغرب جملة في الراوية و هي "الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض .. إن الدولة هي معبد الله على الأرض".....و هكذا اصبح عثمان بيومي يري ان الدولة كل شئ انها الكون و المجرة و أن المدير العام هو من المقربيين من الله او لعله احد الآلهة و انطلق عثمان لا يطمح في شئ الا ان يصير مديراً عاماً للإدارة ، و هكذا ظل يرتقي في عمله خاصة بعد تخرج في الحقوق ، وفي الحقيقة أنه كان نموذجاً للأنسان المجتهد، فهو ينهل من منابع الثقافة العامة ، ويوطد علاقاته برؤسائه من خلال الاجتهاد والاستقامة ويبدأ بالادخار استعدادا للزواج من فتاة تكون سبيله إلى القمة، ولكنه لم يدري أن الزمن يتسرب من خلال أصابعه ، وقد أعرض عن الزواج من اثنتين أحبهما في فترتين متباعدتين من حياته ، هما " سيدة " و " أنيسة " لأنهما لا تقدمان له ما يبغي من زواجه من وجاهة و ما سيكون مناسباً له عندما يجلس علي كرسي المدير العام ، و كان عثمان لا يجد عزاء في عذوبته هذه و حرمانه إلا في وصاله الجسدي لقدريّة ـ البغي الغانية ـ و الغريب أنه في لحظة من اليأس والافتقار إلى الحب الحقيقي تزوج من " قدرية "و لكن لم تمضي ايام حتي اتاحت له الظروف مجال للترقي فصار مديراً للإدارة وحينها أحس بغلطته من انه تزوج قدرية فاسرع ليتزوج مرة ثانية من سكرتيرته ( راضية ) التي تبلغ من العمر ١٨ عاماً وفي اللحظة التي صمّم فيها على الإنجاب والتخلي عن حلمه بالدرجة العظيمة ومنصب المدير العام جاءه قرار تعيينه وهو على فراش المرض فقضى اخر ايام حياته بلا حب دافئ ، وبلا ذرية ، ودون أن يباشر الحكم من إدارته . ويسطر عمنا النجيب نجيب محفوظ جملة أخري قمة في الابداع و العمق تقول "إن لعبة الرغبة والنفور ما هي إلا تمرين على الموت، والبعث، وإدراك مسبق لقبول المأساة بعظمة تناسب المجهول فيما يبدي من لمحات خاطفة عن ذاته اللانهائية"......و تنتهي حياة عثمان بيومي و التي هي رمز لحياتنا جميعاً و نحن نجري وراء الوهم.....ذلك الوهم الذي قد يكون فلوس او منصب او جواز او اولاد او سلطة او اي حاجة و لهذا فقد كانت جملته "مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم" أجمل ما قرأت بلا شك

أعدت قراءة الرواية في ٢٠١٣ بعد ما مر بمصر من احداث سياسية و اجتماعية و انا اعتقد انني في حاجة الي قراءة تافهة -لاني اعتقدت خطأً في صغيري انها رواية تافهة كما ذكرت- افرغ فيها رأسي و قلبي و أتخلص فيها من همي و ألمي و لكن المعاني الجديدة صدمتني. لقد أكتشفت ان هذه الرواية هي اعظم ما كتب نجيب محفوظ بعد رواية الطريق و فهمت انها بهذا العمق و الجمال تعكس تلك المرحلة التي تخطئ فيها محفوظ النضوج بمراحل كثيرة، فطريقة بنائه للشخصيات و عرض تطور شخصياتهم في كل المراحل بطريقة تجعلك تحس بان الرواية تنبض بالحياة و انك تعرف الشخصيات. كمان ان العبارات المستخدمة قمة في الجمال اللغوي و البُعد الفلسفي، تخيل مثلاً هذه الجملة التي جاءت علي لسان عثمان بيومي "هون من أحزانك .. لم تعد تتحمل كالزمان الأول .. أجل يوجد تغير جديد .. خفيف كالنسيم لكنه ماكر كالثعلب .. إنه السن .. وإنه الزمن " بيوصف الزمن بأنه خفيف كالنسيم يعني مش بنحس به و لكنه ماكر كالثعلب يسرق من ما قدره الله لك لتعيش علي هذه الأرض، كمان فيه عبارة تانية جميلة يقول فيها "لولا وجود الله لكانت الحياة لعبة خاسرة لا معنى لها .. من حسن حظنا أنه موجود وأنه أعلم منا بما يفعل"....هل رأيت جملة تقطر ايماناً مثل هذه؟؟ -فين اللي بيكفره؟- و بعدين يرجع يقول جملة تخليك تعرف ايه الفرق بين نجيب محفوظ نفسه و من يكفره، فيقول في الجملة ديه " الجنون وحده هو الذي يتسع للإيمان والكفر، للمجد والخزي، للحب والخداع، للصدق والكذب، أما العقل فكيف يتحمل هذه الحياة الغريبة؟ ".........و هو فيه حد فهمنا الحياة ديه غير المجانين...أذكر قصة او موقف واحد صديق حكي عنه علي الفيسبوك مش قادر انساه ابداً لانه أغرب حاجة سمعتها....يقول صديقي: ماشي في الشارع شوفت ناس واقفة في طابور علشان يشتروا عيش و كانت الزحمة مش طبيعية و الكل منفعل و بيزعق و فجأة جاء احد المجانين المشردين الذين يملئون شوارعنا فوقف قدام الجملة و زعق فيها وقال :ياولاد ال**** هو انتوا وقفتوا لربنا بالعرض علشان تقفوا له بالطول" -اسف علي اللفظ......بس الرجل ده مش ممكن يكون مجنون ، ده اكيد احنا اللي مجانين. فالرجل يقصد ان الناس تتصارع و تقف الطابور في ذل علشان لقمة العيش و الطابور ده طبعاً بالطول و لكنهم لا يقفون في صفوف الصلاة التي هي صفوف عرضية.....ده ايه الحكمة و الفلسفة ديه اللي في الجملة اللي قالها هذا العاقل الوحيد و لا اقول المجنون. و لعل جملة نجيب محفوظ هذه " الجنون وحده هو الذي يتسع للإيمان والكفر، للمجد والخزي، للحب والخداع، للصدق والكذب، أما العقل فكيف يتحمل هذه الحياة الغريبة؟ " تشرح حالة هذا الرجل و حالتي انا شخصياً

في الختام أحب ان اقول ان لو ان نجيب محفوظ رحمه الله كان مفسراً للقرآن فليس هناك شك أن روايته هذه هي تفسير الآية التي تقول "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا." فاللهم لا تجعلنا من هؤلاء الأخسرين أعمالاً و أرضي عنا و أهدانا و لا تجعل الدنيا مبلغ همنا و لا غاية علمنا و أغفر لنا و أصلح لنا أعمالنا فأنه لا قادر علي ذلك الا أنت و لا اله غيرك ياربي و رب العالمين


لمشاركة المقالة علي صفحتك في الفيسبوك، اضغط علي كلمة شير



التعليقات


مواضيع ذات صلة

Image placeholder

"يعقوب و بنيه" النظرة اليهودية الي قصة سيدنا يوسف

ودعا يعقوب بنيه وقال: «اجتمعوا لانبئكم بما يصيبكم في اخر الايام. اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب، واصغوا الى اسرائيل ابيكم: راوبين، انت بكري، قوتي واول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز. فائرا كالماء لا تتفضل، لانك صعدت على مضجع ابيك....اقرأ المزيد


E-currency exchange listing

Image placeholder

تعرف علي قصة اسلام الباحث عن الحقيقة سلمان الفارسي

فقال أمير المؤمنين لسلمان يا با عبد الله أ لا تخبرنا بمبدإ أمرك ؟؟ فقال سلمان و الله يا أمير المؤمنين لو أن غيرك سألني ما أخبرته أنا كنت رجلا من أهل شيراز من أبناء الدهاقين و كنت عزيزا على والدي فبينا أنا سائر مع أبي ...اقرأ المزيد